القولبة والبرمجة الإجتماعية وقابلية "الإسْتِحمار"

الاثنين، 30 ديسمبر 2013

في الطفولة كنت دائما أنتظر بعض التواريخ المعينة للإحتفال بها , كان لغالبيتها حججا مقبولة بالنسبة لي وقتها وتفسيرات منطقية , لكن تاريخين معينين أتعباني قبل أن أجد لهما تفسيرا , حيث لم تقنعني جميع التفسيرات الموجودة عنهما مسبقا : 28 نوفمبر وبداية كل عام.

لم أعرف وقتها لماذا يحتفل كل هؤلاء بإنجاز لم يحققوه أو بانقضاء سنة من أعمارهم , بإنجاز أضاعوا الكثير من مكتسباته مع مرور الوقت وتعاقب الأنظمة , أو بعام كان شاهد على فشلهم . لماذا علي أنا أن أحتفل به مثلهم مع أني لا أحصل على العيدية "اندوينة" في يومه ولا على لباس جديد في صبيحته خلاف كل الأعياد الأخرى!  .
في مسيرة بحثي عن إجابة مقنعة , أدركت أن هناك أيضا أسئلة أخرى أكثر إلحاحا , وتصرفات أخرى متناقضة مع الموروث الديني والاجتماعي  ومع كل ماتعلمناه في دراستنا الإبتدائية. لكن على الجميع القبول بها وعدم مراجعتها .

كان عليَ أن أنتمي وقتها وأن أندمح مع مجتمعي وبيئتي المحيطة , وفي سبيل ذالك توجب علي تجاهل كل تلك الأسئلة وقبول الواقع, وبمثل هذه الطريقة تمت برمجتنا وقولبتنا لإفهامنا أننا لسنا أكبر من النماذج الإجتماعية الموجودة , وأن أقصى حدود إبداعنا هو تقليد ماهو موجود والسير على درب سلكه من كان قبلنا .
 تماما كفيل السيرك ; حيث يعتاد وهو صغير أن يُربط بشجرة بواسطة حبل غليظ لكي يظل ثابتا في مكانه , فيحاول في البداية أن يقطع الحبل لكي يتحرر لكنه يعجز مرات عديدة , وعندما يكبر ويكون قادرا على قطع الحبل , فإنه لا يتحرك ظنا منه أنه غير قادر على التخلص من قيده , ولو ربطوه بعدها بواسطة حبل رقيق وعمود هش .

عيد الإستقلال الوطني  يحمل معه في كل مرة مفاجأة سارة وغير متوقعة لكوننا لازلنا أمة مستقلة وغير مستعمرة !! . ربما ذالك هو سبب فرحنا به وفرحتنا فيه , فأكثر من خمسين سنة بعد الاستقلال وبعد التضحيات الجسام التي قدمها الأجداد , لازلنا نسير في دائرة مفرغة , وقابليتنا "للإستحمار" تزداد , ولازلنا أوفياء لإستراتيجية الفشل التي أوصلتنا لذالك !  .
لا نسأل عادة عن حصادنا في العام الماضي ولاعن ما أنجزناه  فيه, ولاعن خططنا في العام الجديد . لكننا سعيدين لأن موريتانيا لازالت موحدة ودولة قائمة , ولازال هناك مايُسرق من ثرواتها وما نستطيع إتلافه ! .
بمثل تلك الأجوبة , وجدت ما أهدأ به من شراهة تلك الأسئلة لأتفرغ للأكثر منها تعقيدا , لمحاولة فهم طريقة تأطيرنا إجتماعيا و برمجتنا و قولبتنا في قوالب جاهزة , تحد من خياراتنا وتكبح من توقنا للتغيير الإيجابي .

الكثير من القيم والمعاني ضاعت في يم الألفاظ المجتمعية ; سارق أموال الشعب وناهب ثروات الوطن يوصف بالبطل "الفكراش" , والمنقلب على حق الشعب في اختيار من يحكمه شجاع "راجل" , وفي الجانب الآخر ... أصبح المواطن النزيه والشريف والباحث عن خير هذا الوطن وغده المشرق , إنسان حالم وغير عقلاني ويُتهم بكل الأوصاف المنفرة ! .
وهكذا أنتجنا قوالب اجتماعية جاهزة للاستعمال ومبرمجة مسبقا , ربطنا بعضها بالنجاح والتميز والقبول وبعضها الآخر بالفشل والطرد من رحمة المجتمع وعطفه . علينا في كل مرة نبلغ فيها سن الرشد أن نختار أي تلك القوالب تناسبنا .
الكثير منا اختار ولازلنا جميعا نتحمل تبعات اختياره , جندي الجيش صديقي اختار أن يترك دارسته ويدخل الجيش على أمل أن ينقلب يوما ما وينفرد بالسلطة لكي يبرهن على شجاعته . وصديقي الآخر السياسي ينتظر أقرب فرصة ليبيع فيها ضميره ويسرق مقدرات هذا الشعب لكي يبرهن على أنه بطل "فكراش" ! .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تصنيفات المدونة